الكتاب المقدس و معركة التاريخ
الأربعاء، 26 أبريل 2017 أبريل 26, 2017
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله خير خلق الله ثم اما بعد:
فإن العالمين الإسلامي والغربي يخوضان معركة جديدة من نوع غير مألوف ولم يعتد عليه عامة الناس, ألا وهي معركة الفكر ,معركة المصداقية والكذب. وفي ظل الموجة السائدة في هذا الزمان في الشرق والغرب ,وهي موجة العودة الى التدين, والتي أصبحت ملموسة بوضوح من خلال ارتفاع مستوى الالتزام الديني بين شبابنا والذي جاء نتيجة ارتفاع مستوى الوعي للواقع متزامنة مع الثورة التكنولوجية التي يسرت الوصول الى المعلومة من غير وسيط أو وصي أو قيود على الافكار, فقد أصبح هذا ملموساً أيضا في التوجه الغربي الى التدين اليميني في محاولة لبعث روح الأمجاد الصليبية التي كانت مدفونة في قبر وهمي تحت مسمى الديمقراطية والليبرالية والحرية و حقوق الإنسان والمساواة بين بني البشر زاعمين أن فكرة سمو الرجل الأبيض في المجتمع الغربي الأورو-امريكي هو شيء من التاريخ الذي عفى عليه الزمن. وحتى يتم المشهد وتتم لهذه المعركة اركانها، كان لا بد منالخصوم في هذه المعركة أن يحيوا روح التمسك بأصل المعتقد الذي هم عليه ألا وهو الكتب المقدسة عند كلا الطرفين. فكانت العودة إلى القرآن الكريم والالتزام بأوامره و نواهيه هي السمة الغالبة على شبابنا العائد الى الالتزام. وكان الحال هو نفسه عند الطرف الآخر، و أصبح واضحا إلتزام زعماء المجتمع الغربي الأورو-امريكي بمرجعيتهم الدينية. ولا يمكننا افتراض ان ما نسمعه يوميا من زعماء هذا المجتمع تجاه الإسلام هو شيء عارض لا يمثل قيم وأخلاق وتوجهات هذه المجتمعات. وخير دليل على هذا هو وصول الشخصيات والاحزاب المسيحية اليمينية المتطرفة فكرياً إلى مراكز الحكم في بلادهم عبر انتخابات حرة نزيهة كما يزعمون ،مما يعبر عن التوجه الفكري السائد مؤخرا في تلك المجتمعات، و قد صدق فيهم قول الله تعالى "(وما تخفي صدورهم أكبر)". فاصبح سعيهم لتكذيب القرآن الكريم وإثبات صدق الكتاب المقدس هو احد الأسلحة المستخدمة في تلك المعركة. وقد رأينا أن أفضل طريقة لجعل كيدهم في نحورهم، هي ببساطة ان نقلب الطاولة عليهم و نوجه عليهم اسلحتهم، وأن نشغلهم بأنفسهم وأن نوجه مجهوداتهم في تكذيب القرآن ، إلى محاولة إثبات صدق الكتاب المقدس. وحتى نأتي على بنيانهم من اركانه، فإنه يجب علينا أن نشككهم في كتابهم الذي هو اصل معتقدهم. ويكفينا كمسلمين قول الله عزوجل "(فويل للذين يكتبون الكتاب بايديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا")، ولكن القرآن ليس بحجة عليهم، فكان لابد من الناحية الموضوعية و الحيادية البحثية، ان نسلط عليهم اقوال بني جلدتهم من العلماء الغربيين المتخصصين أكاديميا في مجال أصول الكتاب المقدس. وخلال بحثي و قراءتي في مقالات و كتب أحد هؤلاء العلماء، حضرني قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" فوقع اختياري على عالم له شهرة كبيرة في مجال تاريخ الكتاب المقدس الا وهو الدكتور بارت ايرمان BART EHRMAN.
(الدكتور بارت ايرمان) هو رئيس قسم الدراسات الدينيه في جامعه نورث كارولاينا وله كتب ومناظرات عديدة، وحائز على جوائز علمية عالمية ويعتبر من اعلم الناس في تاريخ العهد الجديد، كما أثنى على أعماله معظم النقاد و الصحف الغربية. (والدكتور بارت ايرمان) قد درس تاريخ العهد الجديد في اهم المعاهد الإنجيلية في الولايات المتحد الأمريكية وقال عن نفسه أنه كان من الملتزمين دينيا والمؤمنين مسيحيا، وقد ترأس كنيسة في (شيكاغو لمدة عام )كما قال هو عن نفسه في مقدمة احد كتبه. وبعد أن تعمق في دراسة أصول العهد الجديد و رأى الكم الهائل من التناقضات والاختلافات بين المخطوطات، ظل متشككاً لسنوات طويلة الى أن وصل به الحال الى أن أعلن تبرأه من الإيمان الديني. ولكن هذا لا ينفي شهرة (الدكتور ايرمان و رسوخ قدميه في مجال العلم الأكاديمي البحت، وكتبه الكثيرة خير شاهد على ذلك. و لطالما كانت كتابات (الدكتور إيرمان واراؤه سبب جدل في الاوساط العلميه و بين الاكاديميين المتخصصين في تاريخ العهد الجديد .و كانوا يعتبرون الدكتور إيرمان ممن ينتمي الى طائفه المشككين skeptics”"، و قد وصل الحال ببعضهم ان يتهمه انه مسلم متخفٍ . ونحن وان كنا نتمنى الخير لكل البشر ونعلم علم اليقين ان مثل هذا الامر ,اعني الاسلام ,لا يخفى علي مثل الدكتور ايرمان, و لكنا نتذكر قوله تعالى :"انك لاتهدي من احببت". و محور اهتمامنا في اقوال الدكتور ايرمان وكتاباته ينحصر في الناحيه التاريخيه فقط ولا نتبنى معتقداته الثيولوجية لا من قريب ولا من بعيد . ومن خلال رده على هذه الاتهامات اورد الدكتور ايرمان الاسباب التي جعلته يشكك في أصول ومصداقية الكتاب المقدس خاصة العهد الجديد منه ,وأورد تلك الأسباب في عدة نقاط جاءت كالآتي:
أولا:نحن,بحسب الدكتور ايرمان, لا نملك المخطوطات الأصلية للكتاب المقدس, بل نملك الاف النسخ والتي يعود تاريخ معظمها لعدة قرون بعد تلك النسخ الاصلية مما يحدث فراغا زمنيا وانقطاعاًاسنادياً بين النسخة الاصلية وأقدم نسخة بين أيدينا قد يصل إلى ثلاث قرون من الزمان.
ثانياً :ليست واحده من تلك النسخ التي بين ايدينا الان منسوخه عن النسخه الاصليه التي كتبها الكاتب الاصلي .
ثالثا :كل النسخ التي وصلت الينا فيها اخطاء وقعت من ناسخ المخطوطه عمدا او خطا .
رابعاً: نحن لا نعلم عدد الاخطاء الموجوده في النسخ التي بين ايدينا , فان عدد الاخطاء الموجوده في الكتاب المقدس تصل ما بين 300او 400الف و بعض الاراء تقول انها 500000, لذلك يعتقد الدكتور بارت ايرمان ان عدد الاخطاء يفوق عدد كلمات العهد الجديد. و لكن لحسن الحظ وبحسب الدكتور ايرمان, ان الكثير من تلك الاخطاء والتغييرات غير مؤثره على الشكل العام للعهد الجديد ومنها لا يعدو ان يكون خطأ املائياً يُظهر أن الكاتب قديما لم يكن يحسن تهجئه الكلام افضل من طالب في المرحله الابتدائيه في زماننا الحالي.
خامساً: هناك اخطاء و تغييرات اصعب من تلك التي ذكرناها سابقا حيث يُلاحظ أن السياق العام للنص يتجه في اتجاهين مختلفين و كلا الاتجاهين قد يكون صحيحا, و في هذه الحالة, يتوجب على المتخصصين في النقدالنصي أن يحددوا لنا ماذا تقول المخطوطة الأصلية.
سادساً: هناك بعض الأماكن في العهد الجديد هي من الصعوبة بمكان انه يستحيل على العلماء المتخصصين في النقد النصي أن يتفقوا وعلى وجهة نظر واحدة حول الموضوع. نعم, هناك مواضع في العهد الجديد يستحيل الوصول الى حل حولها يرضي جميع الأطراف. وقد تبلغ هذه المواضع من الأهمية في بعض الأحيان أنها قد تؤثر على ترجمة الآية أو الفقرة أو حتى الكتاب كله.
سابعاً: وإن كنا نقول, بحسب الدكتور ايرمان ,ان هذا كله لا يعني أن نصوص العهد الجديد غير اصلية, ولكن هناك مواضع كثيرة يستحيل علينا في هذا الزمان أن نعلم ماذا يقول النص الأصلي.
ثامناً: نستطيع أن نستشرف من مقالات الدكتور إيرمان وكتبه أن هناك كم هائل من التناقضات بين الكتب الموجودة حاليا في العهد الجديد ,وعلى سبيل المثال لا الحصر, الاختلافات والتناقضات الموجودة في قصة صلب المسيح عليه السلام المزعومة في إنجيلي مرقص و متى والاختلافات في وصف حال المسيح عليه السلام عند إسلامه الروح.
أما من ناحية تقنيات نقل المخطوطات القديمة من جيل الى آخر, فهناك اجماع بين العلماء المتخصصين في تاريخ الكتاب المقدس أن كل النصوص والكتابات التي كانت موجودة قبل اكتشاف الطباعة والتي انتقلت من جيل إلى آخر عبر النسخ اليدوي, قد أصابها شيء من التغيير والتبديل والتحريف. واذكر في هذا المقام مثالين لعالمين معتبرين في هذا المجال. الأول هو الدكتور ايمانويل توڤ صاحب كتاب The textual criticism of the Hebrew Bible حيث أفرد قسما كاملا في كتابه المذكور للكلام عن هذا الموضوع. والعالم الثاني هو الدكتور بروس ميتزغر ((BRUCE METZGER الذي ألّف كتابا كاملا جعل عنوانه: TEXT OF THE NEW TESTAMENT ,Its Transmission, Corruption, and Restoration ," أو "نصوص العهد الجديد: نقلها, تحريفها و محاولة استعادتها", والذي فصل فيه تفصيلا دقيقا حول هذا الموضوع وأورد أمثلة كثيرة قد تفيد الباحثين.
ولابد من الإشارة ان النقاط المذكورة أعلاه حول الكتاب المقدس هي موضع إجماع بين العلماء المتخصصين سواءً كانوا من المشككين في أصول الكتاب أو من المؤمنين به على حد سواء. فالمعلومات الواردة هي معلومات تاريخية بحتة ولا تتعلق بالايمان لا من قريب ولا من بعيد.
لابدأن الفت نظر القارئ الكريم انه بمثل هذه الأسلحة العلمية الفكرية تتضاعف آمالنا في بيان الحق لنا ولهم. وليعلم هؤلاء أن للتاريخ أنياب لن ينجو منها من كان إيمانه هشاً وكتابه مكذوباً كما هو حال الكتاب المقدس، ولكن يكسر هذه الأنياب من كان إيمانه صلباً وكتابه صادقاً، كما هو حال القرآن الكريم.
هذا والله ولي التوفيق.
أ.نبيه
الصباغ
الباحث في مقارنة الأديان
This entry was posted on أبريل 26, 2017, and is تسميات
نقد نصى
. Follow any responses to this post through RSS. You can leave a response, or trackback from your own site.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)



إرسال تعليق